فصل: تفسير الآيات (68- 70):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل



.تفسير الآية رقم (61):

{جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا (61)}
لما كانت الجنة مشتملة على جنات عدن أبدلت منها، كقولك: أبصرت دارك القاعة والعلالي. و {عدن} معرفة علم، بمعنى العدن وهو الإقامة، كما جعلوا فينة، وسحر، وأمس- فيمن لم يصرفه- أعلاماً لمعاني: الفينة والسحر، والأمس، فجرى مجرى العدن لذلك. أو هو علم لأرض الجنة؛ لكونها مكان إقامة، ولولا ذلك لما ساغ الإبدال؛ لأن النكرة لا تبدل من المعرفة إلا موصوفة، ولما ساغ وصفها بالتي. وقرئ {جنات عدن} {وجنةُ عدن} بالرفع على الابتداء. أي: وعدها وهي غائبة عنهم غير حاضرة. أو هم غائبون عنها لا يشاهدونها. أو بتصديق الغيب والإيمان به. قيل في {مَأْتِيّاً} مفعول بمعنى فاعل. والوجه أنّ الوعد هو الجنة وهم يأتونها. أو هو من قولك: أتى إليه إحساناً، أي: كان وعده مفعولاً منجزاً.

.تفسير الآية رقم (62):

{لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (62)}
اللغو: فضول الكلام ومالا طائل تحته. وفيه تنبيه ظاهر على وجوب تجنب اللغو واتقائه، حيث نزه الله عنه الدار التي لا تكليف فيها. وما أحسن قوله سبحانه {وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ مَرُّواْ كِراماً} [الفرقان: 72] {وَإِذَا سَمِعُواْ اللغو أَعْرَضُواْ عَنْهُ وَقَالُواْ لَنَا أعمالنا وَلَكُمْ أعمالكم سلام عَلَيْكُمْ لاَ نَبْتَغِى الجاهلين} [القصص: 55] نعوذ بالله من اللغو والجهل والخوض فيما لا يعنينا، أي: إن كان تسليم بعضهم على بعض أو تسليم الملائكة عليهم لغواً، فلا يسمعون لغواً إلا ذلك، فهو من وادي قوله:
وَلاَ عَيْبَ فِيهِمْ غَيْرَ أنَّ سُيُوفَهُم ** بِهِنَّ فُلُولٌ مِنْ قِرَاعِ الْكَتَائِبِ

أو لا يسمعون فيها إلا قولاً يسلمون فيه من العيب والنقيصة، على الاستثناء المنقطع. أو لأن معنى السلام هو الدعاء بالسلامة. ودار السلام: هي دار السلامة، وأهلها عن الدعاء بالسلامة أغنياء، فكان ظاهره من باب اللغو وفضول الحديث، لولا ما فيه من فائدة الإكرام.
من الناس من يأكل الوجبة. ومنهم من يأكل متى وجد- وهي عادة المنهومين. ومنهم من يتغدى ويتعشى- وهي العادة الوسطى المحمودة، ولا يكون ثم ليل ولا نهار، ولكن على التقدير؛ ولأن المتنعم عند العرب من وجد غداء وعشاء. وقيل: أراد دوام الرزق ودروره، كما تقول: أنا عند فلان صباحاً ومساء وبكرة وعشياً، يريد: الديمومة، ولا تقصد الوقتين المعلومين.

.تفسير الآية رقم (63):

{تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا (63)}
{نُورِثُ} وقرئ {نورّث} استعارة، أي: نبقي عليه الجنة كما نبقي على الوارث مال المورّث ولأن الأتقياء يلقون ربهم يوم القيامة قد انقضت أعمالهم وثمرتها باقية وهي الجنة، فإذا أدخلهم الجنة فقد أورثهم من تقواهم كما يورّث الوارث المال من المتوفي. وقيل: أورثوا من الجنة المساكن التي كانت لأهل النار لو أطاعوا.

.تفسير الآية رقم (64):

{وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (64)}
{وَمَا نَتَنَزَّلُ} حكاية قول جبريل صلوات الله عليه حين استبطأه رسول الله صلى الله عليه وسلم. روي أنه احتبس أربعين يوماً. وقيل: خمسة عشر يوماً، وذلك حين سئل عن قصة أصحاب الكهف وذي القرنين والروح، فلم يدر كيف يجيب ورجا أن يوحى إليه فيه، فشق ذلك عليه مشقة شديدة وقال المشركون: ودّعه ربه وقلاه فلما نزل جبريل عليه السلام قال له النبي صلى الله عليه وسلم: «أبطأت حتى ساء ظني واشتقتُ إليكَ. قال: إنّي كنتُ أشوقَ ولكني عبدُ مأمورٌ، إذا بُعثتُ نزلتُ، وإذا حُبْستُ احتبستُ» وأنزل الله سبحانه هذه الآية وسورة الضحى. والتنزل على معنيين: معنى النزول على مهل، ومعنى النزول على الإطلاق، كقوله:
فَلَسْتَ لإِنِسي وَلَكِنْ لِمَلأَكٍ ** تَنَزَّلَ مِنْ جَوِّ السَّمَاءِ يَصُوبُ

لأنه مطاوع نزل، ونزل يكون بمعنى أنزل، وبمعنى التدريج، واللائق بهذا الموضع هو النزول على مهل والمراد أن نزولنا في الأحايين وقتاغب وقت ليس إلا بأمر الله، وعلى ما يراه صواباً وحكمة، وله ما قدامنا {وَمَا خَلْفَنَا} من الجهات والأماكن {وَمَا بَيْنَ ذلك} وما نحن فيها فلا نتمالك أن ننتقل من جهة إلى جهة ومكان إلى مكان إلا بأمر المليك ومشيئته، وهو الحافظ العالم بكل حركة وسكون، وما يحدث ويتجدد من الأحوال، لا يجوز عليه الغفلة والنسيان، فأنى لنا أن نتقلب في ملكوته إلا إذا رأى ذلك مصلحة وحكمة، وأطلق لنا الإذن فيه. وقيل: ما سلف من أمر الدنيا وما يستقبل من أمر الآخرة، وما بين ذلك: ما بين النفختين وهو أربعون سنة. وقيل: ما مضى من أعمارنا وما غبر منها، والحال التي نحن فيها. وقيل: ما قبل وجودنا وما بعد فنائنا. وقيل: الأرض التي بين أيدينا إذا نزلنا، والسماء التي وراءنا، وما بين السماء والأرض، والمعنى: أنه المحيط بكل شيء لا تخفى عليه خافية ولا يعزب عنه مثقال ذرة، فكيف نقدم على فعل نحدثه إلا صادراً عما توجبه حكمته ويأمرنا به ويأذن لنا فيه. وقيل: معنى {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً} وما كان تاركاً لك، كقوله تعالى: {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قلى} [الضحى: 3] أي: ما كان امتناع النزول إلا لامتناع الأمر به. وأما احتباس الوحي فلم يكن عن ترك الله لك وتوديعه إياك، ولكن لتوقفه على المصلحة، وقيل: هي حكاية قول المتقين حين يدخلون الجنة، أي: وما ننزل الجنة إلا بأن مَنَّ الله علينا بثواب أعمالنا وأمرنا بدخولها، وهو المالك لرقاب الأمور كلها السالفة. والمترقبة والحاضرة، اللاطف في أعمال الخير والموفق لها والمجازي عليها، ثم قال الله تعالى- تقريراً لقولهم-: وما كان ربك نسياً لأعمال العاملين غافلاً عما يجب أن يثابوا به، وكيف يجوز النسيان والغفلة على ذي ملكوت السماء والأرض وما بينهما؟ ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فحين عرفته على هذه الصفة، فأقبل على العمل واعبده: يثبك كما أثاب غيرك من المتقين.
وقرأ الأعرج رضي الله عنه {وما يتنزل} بالياء على الحكاية عن جبريل عليه السلام والضمير للوحي.
وعن ابن مسعود رضي الله عنه: {إلا بقول ربك} يجب أن يكون الخلاف في النسي مثله في البغي.

.تفسير الآية رقم (65):

{رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (65)}
{رَبُّ السماوات والأرض} بدل من ربك، ويجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف، أي هو رب السموات والأرض {فاعبده} كقوله:
وَقَاَئِلَةٍ خَوْلاَنُ فَانْكِحْ فَتَاتَهُمْ

وعلى هذا الوجه يجوز أن يكون {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً} [مريم: 64] من كلام المتقين، وما بعده من كلام رب العزة.
فإن قلت: هلا عدّي {وَاْصْطَبِر} بعلى التي هي صلته، كقوله تعالى: {واصطبر عَلَيْهَا} [طه: 132]؟ قلت: لأن العبادة جعلت بمنزلة القرن في قولك للمحارب: اصطبر لقرنك، أي اثبت له فيما يورد عليك من شداته أريد أن العبادة تورد عليك شدائد ومشاق، فاثبت لها ولاتهن، ولا يضق صدرك عن إلقاء عداتك من أهل الكتاب إليك الأغاليط، وعن احتباس الوحي عليك مدة وشماتة المشركين بك. أي: لم يسم شيء بالله قط، وكانوا يقولون لأصنامهم آلهة، والعزى إله وأما الذي عوض فيه الألف واللام من الهمزة، فمخصوص به المعبود الحق غير مشارك فيه.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما: لا يسمى أحد الرحمن غيره. ووجه آخر: هل تعلم من سمي باسمه على الحق دون الباطل، لأن التسمية على الباطل في كونها غير معتدّ بها كلا تسمية. وقيل: مثلاً وشبيهاً، أي: إذا صح أن لا معبود يوجه إليه العباد العبادة إلا هو وحده، لم يكن بد من عبادته والاصطبار على مشاقها وتكاليفها.

.تفسير الآيات (66- 67):

{وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (66) أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا (67)}
يحتمل أن يراد بالإنسان الجنس بأسره، وأن يراد بعض الجنس وهم الكفرة.
فإن قلت: لم جازت إرادة الأناسي كلهم، وكلهم غير قائلين ذلك؟ قلت: لما كانت هذه المقالة موجودة فيمن هو من جنسهم، صح إسناده إلى جميعهم، كما يقولون: بنو فلان قتلوا فلاناً، وإنما القاتل رجل منهم. قال الفرزدق:
فَسَيْفُ بَنِي عَبْسٍ وَقَدْ ضَرَبُوا بِهِ ** نَبَا بِيَدَيْ وَرْقَاءَ عَنْ رَأْسِ خَالِدِ

فقد أسند الضرب إلى بني عبس مع قوله: (نبا بيدي ورقاء) وهو ورقاء بن زهير بن جذيمة العبسي.
فإن قلت: بم انتصب {إِذَا} وانتصابه ب (أخرج) ممتنع لأجل اللام؛ لا تقول: اليوم لزيد قائم؟ قلت: بفعل مضمر يدل عليه المذكور.
فإن قلت: لام الابتداء الداخلة على المضارع تعطي معنى الحال، فكيف جامعت حرف الاستقبال؟ قلت: لم تجامعها إلا مخلصة للتوكيد كما أخلصت الهمزة في يا أَلله للتعويض واضمحلّ عنها معنى التعريف. و (ما) في {أَءِذَا مَا} للتوكيد أيضاً، فكأنهم قالوا: أحقاً أنا سنخرج أحياء حين يتمكن فينا الموت والهلاك؟ على وجه الاستنكار والاستبعاد. والمراد الخروج من الأرض، أو من حال الفناء. أو هو من قولهم: خرج فلان عالماً، وخرج شجاعاً: إذا كان نادراً في ذلك، يريد: سأخرج حياً نادراً على سبيل الهزؤ.
وقرأ الحسن وأبو حيوة: {لسوف أخرج} وعن طلحة بن مصرف رضي الله عنه {لسأخرج} كقراءة ابن مسعود رضي الله عنه {ولسيعطيك} وتقديم الظرف وإيلاؤه حرف الإنكار من قبل أن ما بعد الموت هو وقت كون الحياة منكرة، ومنه جاء إنكارهم، فهو كقولك للمسيء إلى المحسن: أحين تمت عليك نعمة فلان أسأت إليه. الواو عطفت {أَوَلاَ يَذْكُرُ} على {يَقُولُ} ووسطت همزة الإنكار بين المعطوف عليه وحرف العطف، يعني: أيقول ذاك ولا يتذكر حال النشأة الأولى حتى لا ينكر الأخرى فإن تلك أعجب وأغرب وأدلّ على قدرة الخالق؟؟ حيث أخرج الجواهر والأعراض من العدم إلى الوجود، ثم أوقع التأليف مشحوناً بضروب الحكم التي تحار الفطن فيها، من غير حذو على مثال واقتداء بمؤلف. ولكن اختراعاً وإبداعاً من عند قادر جلت قدرته ودقت حكمته. وأما الثانية فقد تقدمت نظيرتها وعادت لها كالمثال المحتذى عليه، وليس فيها إلا تأليف الأجزاء الموجودة الباقية وتركيبها، ورّدها إلى ما كانت عليه مجموعة بعد التفكيك والتفريق. وقوله تعالى: {وَلَمْ يَكُ شَيْئاً} دليل على هذا المعنى، وكذلك قوله تعالى: {وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} [الروم: 27] على أن رب العزّة سواء عليه النشأتان، لا يتفاوت في قدرته الصعب والسهل، ولا يحتاج إلى احتذاء على مثال؛ ولا استعانة بحكيم، ولا نظر في مقياس، ولكن يواجه جاحد البعث بذلك دفعاً في بحر معاندته، وكشفاً عن صفحة جهله. القراء كلهم على {لا يذكر} بالتشديد إلا نافعاً وابن عامر وعاصماً رضي الله عنهم، فقد خففوا. وفي حرف أبيّ {يتذكر} {مِن قَبْلُ} من قبل الحالة التي هو فيها وهي حالة بقائه.

.تفسير الآيات (68- 70):

{فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (68) ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا (69) ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا (70)}
في إقسام الله تعالى باسمه تقدست أسماؤه مضافاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: تفخيم لشأن رسول الله ورفع منه، كما رفع من شأن السماء والأرض في قوله تعالى: {فَوَرَبّ السماء والأرض إِنَّهُ لَحَقٌّ} [الذاريات: 23] والواو في {والشياطين} يجوز أن تكون للعطف، وبمعنى مع، وهي بمعنى (مع) أوقع. والمعنى: أنهم يحشرون مع قرنائهم من الشياطين الذين أغووهم، يقرن كل كافر مع شيطان في سلسلة.
فإن قلت: هذا إذا أريد بالإنسان الكفرة خاصة، فإن أريد الأناسيّ على العموم فكيف يستقيم حشرهم مع الشياطين؟ قلت: إذا حشر جميع الناس حشراً واحداً وفيهم الكفرة مقرونين بالشياطين. فقد حشروا مع الشياطين كم حشروا الكفرة.
فإن قلت: هلا عزل السعداء عن الأشقياء في الحشر كما عزلوا عنهم في الجزاء؟ قلت: لم يفرّق بينهم وبينهم في المحشر، وأحضروا حيث تجاثوا حول جهنم، وأوردوا معهم النار ليشاهد السعداء الأحوال التي نجاهم الله منها وخلصهم، فيزدادوا لذلك غبطة إلى غبطة وسروراً إلى سرور، ويشمتوا بأعداء الله وأعدائهم، فتزداد مساءتهم وحسرتهم وما يغيظهم من سعادة أولياء الله وشماتتهم بهم.
فإن قلت: ما معنى إحضارهم جثياً؟ قلت: أما إذا فسر الإنسان بالخصوص، فالمعنى أنهم يقبلون من المحشر إلى شاطئ جهنم عتلا على حالهم التي كانوا عليها في الموقف، جثاة على ركبهم، غير مشاة على أقدامهم، وذلك أن أهل الموقف وصفوا بالجثوّ. قال الله تعالى: {وترى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً} [الجاثية: 28] على العادة المعهودة في مواقف المقاولات والمناقلات، من تجاثي أهلها على الركب، لما في ذلك من الاستيفاز والقلق وإطلاق الحبا وخلاف الطمأنينة. أو لما يدهمهم من شدّة الأمر التي لا يطيقون معها القيام على أرجلهم، فيحبون على ركبهم حبواً. وإن فسر بالعموم، فالمعنى أنهم يتجاثون عند موافاة شاطيء جهنم، على أن (جثياً) حال مقدرة كما كانوا في الموقف متجاثين؛ لأنه من توابع التواقف للحساب قبل التوصل إلى الثواب والعقاب والمراد بالشيعة- وهي (فعلة) كفرقة وفتية- الطائفة التي شاعت، أي تبعت غاوياً من الغواة. قال الله تعالى: {إِنَّ الذين فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا} [الأنعام: 159] يريد: نمتاز من كل طائفة من طوائف الغيّ والفساد أعصاهم فأعصاهم، وأعتاهم فأعتاهم. فإذا اجتمعوا طرحناهم في النار على الترتيب. نقدم أولاهم بالعذاب فأولاهم. أو أراد بالذين هم أولى به صلياً: المنتزعين كما هم، كأنه قال: ثم لنحن أعلم بتصلية هؤلاء، وهم أولى بالصلي من بين سائر الصالين، ودركاتهم أسفل، وعذابهم أشدّ. ويجوز أن يريد بأشدّهم عتياً: رؤساء الشيع وأئمتهم، لتضاعف جرمهم بكونهم ضلالاً ومضلين. قال الله تعالى: {الذين كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ الله زدناهم عَذَابًا فَوْقَ العذاب بِمَا كَانُواْ يُفْسِدُونَ} [النحل: 88]، {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ} [العنكبوت: 13] واختلف في إعراب {أَيُّهُمْ أَشَدُّ} فعن الخليل أنه مرتفع على الحكاية. تقديره: لننزعنّ الذين يقال فيهم أيهم أشد، وسيبويه على أنه مبني على الضم لسقوط صدر الجملة التي هي صلته، حتى لو جيء به لأعرب. وقيل: أيهم هو أشد. ويجوز أن يكون النزع واقعاً على {مِن كُلِّ شِيعَةٍ}، كقوله سبحانه: {وَوَهَبْنَا لَهْمْ مّن رَّحْمَتِنَا} [مريم: 50] أي لننزعن بعض كل شيعة، فكأنّ قائلاً قال: من هم؟ فقيل: أيهم أشد عتياً. وأيهم أشد: بالنصب عن طلحة بن مصرِّف وعن معاذ بن مسلم الهراء أستاذ الفراء.
فإن قلت: بم يتعلق على والباء، فإنّ تعلقهما بالمصدرين لا سبيل إليه؟ قلت: هما للبيان لا الصلة. أو يتعلقان بأفعل، أي: عتوّهم أشدّ على الرحمن، وصليهم أولى بالنار، كقولهم: هو أشد على خصمه، وهو أولى بكذا.